فصل: قال الشوكاني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشوكاني:

{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيرًا} أي: تفاوتًا وتناقضًا، ولا يدخل في هذا اختلاف مقادير الآيات، والسور؛ لأن المراد اختلاف التناقض والتفاوت، وعدم المطابقة للواقع، وهذا شأن كلام البشر لاسيما إذا طال، وتعرّض قائله للإخبار بالغيب، فإنه لا يوجد منه صحيحًا مطابقًا للواقع إلا القليل النادر. اهـ.

.قال أبو حيان:

{ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا} الظاهر أن المضمر في فيه عائد على القرآن، وهذا في علم البيان الاحتجاج النظري، وقوم يسمونه المذهب الكلامي.
ووجه هذا الدليل أنه ليس من متكلم كلامًا طويلًا إلا وجد في كلامه اختلاف كثير، إما في الوصف واللفظ، وإما في المعنى بتناقض أخبار، أو الوقوع على خلاف المخبر به، أو اشتماله على ما لا يلتئم، أو كونه يمكن معارضته.
والقرآن العظيم ليس فيه شيء من ذلك، لأنه كلام المحيط بكل شيء مناسب بلاغة معجزة فائتة لقوى البلغاء، وتظافر صدق أخبار، وصحة معان، فلا يقدر عليه إلا العالم بما لا يعلمه أحد سواه. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَلَوْ كَانَ} أي القرآن.
{مِنْ عِندِ غَيْرِ الله} كما يزعمون {لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيرًا} بأن يكون بعض إخباراته الغيبية كالإخبار عما يسره المنافقون غير مطابق للواقع لأن الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى فحيث اطرد الصدق فيه ولم يقع ذلك قط علم أنه بإعلامه تعالى ومن عنده، وإلى هذا يشير كلام الأصم والزجاج، وفي رواية عن ابن عباس أن المراد لوجدوا فيه تناقضًا كثيرًا، وذلك لأن كلام البشر إذا طال لم يخل بحكم العادة من التناقض، وما يظن من الاختلاف كما في كثير من الآيات، ومنه ما سبق آنفًا ليس من الاختلاف عند المتدبرين، وقيل وهو مما لا بأس به خلافًا لزاعمه المراد لكان الكثير منه مختلفًا متناقضًا قد تفاوت نظمه وبلاغته فكان بعضه بالغًا حد الإعجاز وبعضه قاصرًا عنه يمكن معارضته، وبعضه إخبارًا بغيب قد وافق المخبر عنه، وبعضه إخبارًا مخالفًا للمخبر عنه، وبعضه دالًا على معنى صحيح عند علماء المعاني، وبعضه دالا على معنى فاسد غير ملتئم فلما تجاوب كله بلاغة معجزة (فائقة) لقوى البلغاء وتناصر صحة معان وصدق إخبار علم أنه ليس إلا من عند قادر على ما لا يقدر عليه غيره عالم بما لا يعلمه سواه انتهى.
وهو مبني على كون وجه الإعجاز عند علماء العربية كون القرآن في مرتبة الأعلى من البلاغة، وكون المقصود من الآية إثبات القرآن كله وبعضه من الله تعالى، وحينئذ لا يمكن وصف الاختلاف بالكثرة لأنه لا يكون الاختلاف حينئذ إلا بأن يكون البعض منه معجزًا والبعض غير معجز، وهو اختلاف واحد فلذا جعل (وجدوا) متعديًا إلى مفعولين أولهما: {كَثِيرًا}، وثانيهما: {اختلافا} بمعنى مخلفًا، وإليه يشير قوله: لكان الكثير منه مختلفًا وإنما جعل اللازم على تقدير كونه من عند غير الله تعالى كون الكثير مختلفًا مع أنه يلزم أن يكون الكل مختلفًا اقتصارًا على الأقل كما في قوله تعالى: {يُصِبْكُمْ بَعْضُ الذي يَعِدُكُمْ} [غافر: 28] وهو من الكلام المنصف، وبهذا يندفع ما أورد من أن الكثرة صفة الاختلاف والاختلاف صفة للكل في النظم، وقد جعل صفة الكثرة والكثرة صفة الكثير، لأنالآنسلم أن الكثرة صفة الاختلاف بل هما مفعولا {وَجَدُواْ} وكذا ما أورد من أنه يفهم من قوله: لكان بعضه بالغًا حد الإعجاز ثبوت قدرة غيره تعالى على الكلام المعجز وهو باطل لأنالآنسلم ذلك فإن المقصود أن القرآن كلًا وبعضًا من الله تعالى أي البعض الذي وقع به التحدي وهو مقدار أقصر سورة منه ولو كان بعض من أبعاضه من غيره تعالى لوجدوا فيه الاختلاف المذكور، وهو أن لا يكون بعضه بالغًا حد الإعجاز قاله بعض المحققين وقال بعضهم: لا محيص عن الإيراد الأخير سوى أن يحمل الكلام على الفرض والتقدير أي لو كان فيه مرتبة الإعجاز ففي البعض خاصة على أن يكون ذلك القدر مأخوذًا من كلام الله تعالى كما في الاقتباس ونحوه إلا أنه لا يخفى بعده، وإلى تفسير الاختلاف بالتفاوت بلاغة وعدم بلاغة ذهب أبو علي الجبائي إلى هذا ونقل عن الزمخشري أن في الآية فوائد: وجوب النظر في الحجج والدلالات، وبطلان التقليد وبطلان قول من يقول: إن المعارف الدينية ضرورية، والدلالة على صحة القياس، والدلالة على أن أفعال العباد ليست بخلق الله تعالى لوجود التناقض فيها انتهى.
ولا يخفى أن دلالتها على وجوب النظر في الجملة وبطلان التقليد للكل وقول من يقول: إن المعارف الدينية كلها ضرورية، أما على صحة القياس على المصطلح الأصولي فلا، وأما تقرير الأخير على ما في «الكشف» فلأن اللازم كل مختلف من عند غير الله تعالى على قولهم: إن لو عكس لولا ولو كان أفعال العباد من خلقه لكانت من عنده بالضرورة، وكذبت القضية أو بعض المختلف من عند غير الله تعالى على ما حققه الشيخ ابن الحاجب، والمشهور عند أهل الاستدلال فيكون بعض أفعال العباد غير مخلوقة له تعالى ويكفي ذلك في الاستدلال إذ لا قائل بالفرق بين بعض وبعض إذا كان اختياريًا، وأجاب فيه بأن اللازم كل مختلف هو قرآن من عند غير الله تعالى على الأول، وحينئذ لا يتم الاستدلال، وذكر أن معنى {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله} تعالى عند الجماعة ولو كان قائمًا بغيره تعالى ولا مدخل للخلق في هذه الملازمة، وأنت تعلم أنه غير ظاهر الإرادة هنا وكذا استدل بالآية على فساد قول من زعم: إن القرآن لا يفهم معناه إلا بتفسير الرسول صلى الله عليه وسلم أو الإمام المعصوم كما قال بعض الشيعة. اهـ.

.قال الجصاص:

قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}، فَإِنَّ الِاخْتِلَافَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: اخْتِلَافُ تَنَاقُضٍ بِأَنْ يَدْعُوَ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ إلَى فَسَادِ الْآخَرِ، وَاخْتِلَافُ تَفَاوُتٍ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُ بَلِيغًا وَبَعْضُهُ مَرْذُولًا سَاقِطًا؛ وَهَذَانِ الضَّرْبَانِ مِنْ الِاخْتِلَافِ مَنْفِيَّانِ عَنْ الْقُرْآنِ، وَهُوَ إحْدَى دَلَالَاتِ إعْجَازِهِ؛ لِأَنَّ كَلَامَ سَائِرِ الْفُصَحَاءِ وَالْبُلَغَاءِ إذَا طَالَ مِثْلَ السُّوَرِ الطِّوَالِ مِنْ الْقُرْآنِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَخْتَلِفَ اخْتِلَافَ التَّفَاوُتِ.
وَالثَّالِثُ: اخْتِلَافُ التَّلَاؤُمِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْجَمِيعُ مُتَلَائِمًا فِي الْحُسْنِ، كَاخْتِلَافِ وُجُوهِ الْقِرَاءَاتِ وَمَقَادِيرِ الْآيَاتِ وَاخْتِلَافِ الْأَحْكَامِ فِي النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ.
فَقَدْ تَضَمَّنَتْ الْآيَةُ الْحَضَّ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِالْقُرْآنِ لِمَا فِيهِ مِنْ وُجُوهِ الدَّلَالَاتِ عَلَى الْحَقِّ الَّذِي يَلْزَمُ اعْتِقَادُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ. اهـ.

.قال الثعلبي:

{أفلا يتدبرون الْقُرْءَانَ} يعني أفلا يتفكّرون في القرآن، فيرون بعضه يشبه بعضًا، ويصدق بعضه بعضًا، وإن أحدًا من الخلائق لم يكن يقدر عليه فسيعلمون بذلك أنه من عند الله إذ {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} أي تفاوتًا وتناقضًا {كَثِيرًا} هذا قول ابن عباس.
وقال بعضهم: ولو كان هو من عند غير الله لوجدوا فيه أي في الإخبار عما غاب عنهم. ما كان وما يكون اختلافًا كثيرًا، يعني تفاوتًا بينًا. إذا الغيب لايعلمه إلاّ الله فيعلم بذلك أنه كلام الله وأنّ محمدًا رسول الله صادق، وفي هذه الآية دليل على أنّ القرآن غير مخلوق إذ هو معرى عن الإخلاق من كل الجهات ولو كان مخلوقًا لكان لا يخلو من اختلاف وتفاوت. اهـ.

.قال ابن كثير:

يقول تعالى آمرًا عباده بتدبر القرآن، وناهيا لهم عن الإعراض عنه، وعن تفهم معانيه المحكمة وألفاظه البليغة، ومخبرًا لهم أنه لا اختلاف فيه ولا اضطراب، ولا تضادّ ولا تعارض؛ لأنه تنزيل من حكيم حميد، فهو حق من حق؛ ولهذا قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24] ثم قال: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ} أي: لو كان مفتعلا مختلقا، كما يقوله من يقوله من جهلة المشركين والمنافقين في بواطنهم {لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} أي: اضطرابا وتضادًّا كثيرًا. أي: وهذا سالم من الاختلاف، فهو من عند الله. كما قال تعالى مخبرا عن الراسخين في العلم حيث قالوا: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7] أي: محكمه ومتشابهه حق؛ فلهذا ردوا المتشابه إلى المحكم فاهتدوا، والذين في قلوبهم زيغ ردوا المحكم إلى المتشابه فغووا؛ ولهذا مدح تعالى الراسخين وذم الزائغين.
قال الإمام أحمد: حدثنا أنس بن عياض، حدثنا أبو حازم عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: لقد جلست أنا وأخي مجلسا ما أحب أن لي به حُمر النَّعم، أقبلت أنا وأخي وإذا مشيخة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم على باب من أبوابه، فكرهنا أن نفرق بينهم، فجلسنا حَجْرَة، إذ ذكروا آية من القرآن، فتماروا فيها حتى ارتفعت أصواتهم، فخرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مُغْضَبًا حتى احمر وجهه، يرميهم بالتراب، ويقول: «مهلا يا قوم، بهذا أهلكت الأمم من قبلكم باختلافهم على أنبيائهم، وضربهم الكتب بعضها ببعض، إن القرآن لم ينزل يكذب بعضه بعضا، بل يصدّق بعضه بعضا، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمِه».
وهكذا رواه أيضا عن أبي معاوية، عن داود بن أبي هند، عن عَمْرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: خرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، والناس يتكلمون في القدر، فكأنما يُفْقَأ في وجهه حب الرُّمان من الغضب، فقال لهم: «ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض؟ بهذا هلك من كان قبلكم». قال: فما غبطت نفسي بمجلس فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم أشهده ما غبطت نفسي بذلك المجلس، أني لم أشهده.
ورواه ابن ماجه من حديث داود بن أبي هند، به نحوه.
وقال أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا حماد بن زيد، عن أبي عمْران الجَوْني قال: كتب إلي عبد الله بن رَبَاح، يحدث عن عبد الله بن عمرو قال: هَجَّرتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، فإنا لجلوس إذ اختلف اثنان في آية، فارتفعت أصواتهما فقال: «إنما هلكت الأمم قبلكم باختلافهم في الكتاب» ورواه مسلم والنسائي، من حديث حماد بن زيد، به. اهـ.

.قال الفخر:

قال أبو علي الجبائي: دلت الآية على أن أفعال العباد غير مخلوقة لله تعالى لأن قوله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيرًا} يقتضي أن فعل العبد لا ينفك عن الاختلاف، والاختلاف والتفاوت شيء واحد، فإذا كان فعل العبد لا ينفك عن الاختلاف والتفاوت، وفعل الله لا يوجد فيه التفاوت لقوله تعالى: {مَّا ترى في خَلْقِ الرحمن مِن تفاوت} [الملك: 3] فهذا يقتضي أن فعل العبد لا يكون فعلا لله.
والجواب أن قوله: {مَّا ترى في خَلْقِ الرحمن مِن تفاوت} معناه نفي التفاوت في أنه يقع على وفق مشيئته بخلاف غيره، فإن فعل غيره لا يقع على وفق مشيئته على الإطلاق. اهـ.

.قال ابن عطية:

فإن عرضت لأحد شبهة وظن اختلافًا في شيء من كتاب الله، فالواجب أن يتهم نظره ويسأل من هو أعلم منه، وذهب الزجّاج: إلى أن معنى الآية لوجدوا فيما نخبرك به مما يبيتون اختلافًا، أي: فإذا تخبرهم به على حد ما يقع، فذلك دليل أنه من عند الله غيب من الغيوب. اهـ.

.قال الخطيب الشربيني:

والمراد من التقييد بالكثير المبالغة في إثبات الملازمة أي: لو كان من عند غير الله للزم أن يكون فيه اختلاف كثير فضلًا عن القليل لكنه من عند الله فليس فيه اختلاف لا كثير ولا قليل. اهـ.

.قال في الأمثل:

خلوّ القرآن من الاختلاف دليل حي على إِعجازه:
هذه الآية تخاطب المنافقين وسائر الذين يرتابون من حقيقة القرآن المجيد، وتطلب منهم- بصيغة السؤال- أن يحققوا في خصائص القرآن ليعرفوا بأنفسهم أنّ القرآن وحي منزل، ولو لم يكن كذلك لكثر فيه التناقص والاختلاف، وإِذا تحقق لديهم عدم وجود الاختلاف، فعليهم أن يذعنوا أنّه وحي من الله تعالى.